10 - 11 - 2024

البحث عن «أمل» في "جمهورية الخوف"

البحث عن «أمل» في

لم يخطر ببال الشاعر الراحل سيد حجاب عندما صاغ ديباجة دستور 2014، أن مجرد التفكير في المشاركة السياسية، والمنافسة الانتخابية، سيتحول بعد أقل من خمس سنوات على إقرار الوثيقة الدستورية إلى اتهام يحال بسببه عدد من شباب الثورة إلى جهات التحقيق، ليلقى بهم خلف أسوار السجون.

كتب الشاعر الذي آمن بالثورة، وبحق الأجيال الجديدة في المشاركة والتغيير لخلق واقع أفضل، في ديباجة الوثيقة التي حازت على موافقة نحو 98% من المصريين: "نحن نؤمن بالديمقراطية طريقًا ومستقبلًا وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي للسلطة، ونؤكد على حق الشعب في صنع مستقبله، هو -وحده- مصدر السلطات، الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن، ولنا ولأجيالنا القادمة – السيادة في وطن سيد".

كرم الله الشاعر الراحل بأن قبض روحه قبل أن يرى ويسمع ما فعلته أجهزة ومؤسسات «السيد وطن» في الوثيقة التي شارك في إعدادها وكتب ديباجتها وسوّقها باعتبارها أفضل الوثائق الدستورية في تاريخ مصر.

رحل حجاب في الذكرى السادسة لثورة 25 يناير، قبل أن تلاحقه نظرات لوم من شباب وثقوا فيما جاء بمواد دستور أعيد، للأسف، تفصيله ليتمكن «سيد الوطن» من البقاء في السلطة إلى 2030، بسلطات شبه مطلقة. غاب قبل أن يحاصر بمشاعر الإحباط التي تملكت شيئًا فشيئًا معظم من شارك في الثورة، وبلغت ذروتها بعد الإجهاز على المنجز الوحيد الذي تبقى من ثورتهم.

رغم مشاعر الإحباط واليأس تمسك البعض بأمل بناء الدولة التي خرجوا للبحث عنها قبل ثماني سنوات، فـ «من عتمة الليل النهار راجع» كما بشر حجاب في قصيدته «الأيام». تعامل هؤلاء مع نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، التي -وبحسب الأرقام الرسمية- رفضها نحو 11.5% من جملة الأصوات الصحيحة المشاركة، على أنها نقطة انطلاق قد تمكنهم من فك الحصار المفروض على السياسة، في بلد قرر حكامه إماتة كل ما هو سياسي، كان مبعث تفاؤلهم أن الجمهور الذي أزيح من المعادلة بفعل فاعل ما زال حيًا رغم محاولات تخويفه وإرهابه وإسكاته، هكذا كانت قراءتهم لنتيجة الاستفتاء الأخير.

ولأنهم ساسة ثوار مؤمنون بحق الشعب في الاختيار، قرر هؤلاء الباحثون عن «الأمل» استخدام الآليات الديمقراطية الدستورية لطرح بدائل يختار من بينها المواطن ما يقنعه، فطرحوا فكرة خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بتحالف واسع يضم أطراف المعارضة المدنية من أحزاب ونواب وشخصيات عامة.

في مطلع مايو الماضي، وبعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية مباشرة، بدأت مشاورات المشاركة في الاستحقاق الانتخابي المقبل، وعلى إثر تلك المشاورات دعا عدد من قادة أحزاب «الحركة المدنية الديمقراطية» وحزب المحافظين ومعهم نواب بتكتل «25- 30» البرلماني، ومجموعات شبابية شاركت في حملة «لا للتعديلات الدستورية»، لاجتماعات تحضيرية لبحث بناء تحالف سياسي جديد، «المناقشات جرت على خلفية قناعة مشتركة بأن إغلاق المجال العام وإدارة المجتمع بطريقة الصوت الواحد سوف تفضي إلى انفجار»، بحسب تعبير مدحت الزاهد، رئيس حزب التحالف الشعبي.

الزاهد أبدى مخاوفه من استمرار سياسة غلق كل المنافذ: «طاقة الاحتجاج إن لم تجد متنفسا يجذبها إلى مسارات سلمية ديمقراطية تفتح أبواب الأمل في ظل غياب بدائل ديمقراطية، قد تنفجر في وجه الجميع بكل ما ينطوى عليه هذا الوضع من مخاطر، أما إذا حضرت البدائل الديمقراطية فستتحول إلى طاقة إيجابية لتغيير سلمي ديمقراطي نطمح إليه كمعارضة مسئولة».

شدد المشاركون في تلك الاجتماعات على أن «المشاركة في الاستحقاقات الدستورية المقبلة هي السبيل الوحيد لإعادة الشارع للمعادلة، بهدف كبح جماح السلطة، وأن السبيل الوحيد إلى التقدم والتنمية والاستقرار هي إجبار السلطة على الشروع في بناء نظام ديمقراطي يحتمل كل من اعترف بشرعية النظام الذي تأسس بعد 30 يونيو دون إقصاء لأحد»، يقول أحد المشاركين في تلك الاجتماعات.

الزاهد أكد أن الأطراف المشاركة في مشاورات التحالف السياسي الجديد اتفقوا على استبعاد أي طرف تلوثت يده بالدم أو الفساد، وكذلك كل أنصار الاستبداد السياسي والديني، مشيرًا إلى أن استراتيجية التحالف الذي شرعوا في تدشينه هي المشاركة في كل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، واعتبر أن تلك الاستراتيجية ستجنب البلاد مخاطر الفوضى والانفجارات والإرهاب: «كل تجريف للمجال السياسي يخلق فراغا تشغله عناصر الفوضى والإرهاب، في المقابل فالمشاركة تفتح مسارات أخرى للتغيير وتكبح توجهات سياسات تضر بمصالح الدولة والشعب وتحمله ما لا طاقة له به نتيجة منطق الصوت الواحد».

قبل أن تتبلور عن تلك المشاورات أجندة عمل محددة المعالم وصل إلى القائمين عليها تحذيرات من «مهندسي المشهد السياسي» في مصر، بهدف وأد تحالف «الأمل» قبل أن يخرج إلى النور، وطلب أحدهم من بعض ممثلي الأحزاب المشاركة في المشاورات «إغلاق الموضوع، والبعد عن شخصيات سياسية ونيابية ليس لها هدف إلا الشو والتعريض بمؤسسات الدولة ورئيسها».

رفض أعضاء التحالف الجديد، الذي لم ير النور بعد، تلك الإملاءات وتمسكوا بالمضي في طريقهم لتدشين «تحالف الأمل» وخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة ببرنامج موحد وقائمة موحدة، حتى فوجئوا برسالة قاسية حملها زوار الفجر إلى شباب بالأحزاب المشاركة في التحالف، تم اقتحام منازل هؤلاء الشباب والقبض عليهم واتهامهم بالتحالف مع جماعة الإخوان والتشهير بهم بتعليمات صدرت لوسائل الإعلام الواقعة تحت سيطرة السلطة.

في وقت مبكر من صباح 25 يونيو الماضي، أُلقي القبض على الكاتبين الصحفيين حسام مؤنس، القيادي بحزب التيار الشعبي، وهشام فؤاد، الكادر النقابي اليساري، وزياد العليمي، النائب البرلماني السابق والقيادي بالحزب الديمقراطي الاجتماعي، ورجل الأعمال عمر الشنيطي، وبعض أصدقاء النائب أحمد طنطاوي وآخرين، بهدف ضرب محاولة طرح بديل ديمقراطي للسلطة الحالية يملك رؤية مختلفة وآليات مغايرة، ولتخويف كل من تسول له نفسه التفكير في خوض أي استحقاق انتخابي من خارج بوابة «مهندس المشهد السياسي».

بعد ساعات من حملة القبض على كوادر «تحالف الأمل»، أعلنت وزارة الداخلية أنها تمكنت من إحباط مخطط إرهابي شاركت فيها عناصر «إثارية» تدعى أنها تمثل قوى سياسية مدنية، واتهم بيان الداخلية هؤلاء الشباب بأنهم نسقوا مع جماعة الإخوان لاستهداف الدولة ومؤسساتها، وصولًا إلى إسقاطها مع الاحتفال بذكرى ثورة 30 يونيو.

حملة الاعتقالات لم تكن بعيدة عن ذهن أصحاب الفكرة، فالنظام الذي لم يحتمل نشر كلام وزراء حكومته وحجبهم عن الرأي العام لن يقبل بأي صوت معارض، أو بمعركة انتخابية يخوضها طرف خارج السيطرة.

بيان الداخلية المشار إليه تم تعميمه على المنصات الإعلامية، التي زايد بعضها على ما جاء فيه، ليوجه إلى المقبوض عليهم تهمًا يعلم ناشرها أنها لا تمت للحقيقة بصلة.

أحيل الشباب إلى النيابة، وصدر قرار بحبسهم 15 يومًا على ذمة التحقيق بعد أن اتهموا بـ«مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها ونشر أخبار كاذبة»، وهو الاتهام الذي لم يرد في بيان «الداخلية».

وفيما أصدرت «الحركة المدنية الديمقراطية»، التي ينتمي إليها أغلب من طالتهم عمليات القبض الأخيرة بيانًا تنفي فيه عن نفسها وعن أعضائها أي تعاون مع جماعة الإخوان، أصدرت منظمات حقوقية بيانات تدين فيها «موجة الاعتقالات التي طالت شباب الأحزاب»، واعتبرت منظمة العفو الدولية أن «موجة الاعتقالات الأخيرة وحملة القمع لا تدع مجالاً للشك في رؤية السلطات للحياة السياسية في مصر، وهي أنها سجن كبير دون السماح بأي معارضة أو منتقدين أو صحافة مستقلة».

رسالة حبس شباب الأحزاب المدنية على خلفية تدشين تحالف لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة أربكت قيادات تلك الأحزاب، وتحولت المناقشات من تجهيز برنامج موحد وتأليف قائمة موحدة، إلى كيفية تفادي ضربات جديدة، للدرجة التي طرح فيها البعض الإعلان عن تجميد النشاط الحزبي ورفع الراية البيضاء وترك الساحة السياسية للنظام ومن يدور في فلكه، بحسب قيادي حزبي مطلع على المناقشات.

في المقابل، يرى آخرون من المشاركين في نفس المشاورات أن الانسحاب من المشهد السياسي يسهل على السلطة القائمة مهمتها، في إقناع الناس بعدم وجود بدائل، ليقبلوا في النهاية بما هو قائم من سياسات وتوجهات اقتصادية واجتماعية.

لم تتعلم السلطة دروس الماضي ولا الحاضر، أغلقت جميع منافذ التعبير السلمي عن الرأي، ووأدت أي محاولة لخلق بدائل عبر صناديق الاقتراع ودفنت «الأمل» في أقبية السجون، وغرست الخوف ونشرت الإحباط واليأس في نفوس الشباب الذي قد يتجه للبحث عن طرق أخرى للتغيير بعد أن سدت أمامه المنافذ، فدعمت بقصد أو بدون قصد جماعات العنف التي قررت استخدام السلاح للوصول إلى أهدافها.
-----------------------
بقلم: محمد سعد عبد الحفيظ 
نقلا عن موقع "مدى"

مقالات اخرى للكاتب

تمرد الإمام على ثنائية «الكاهن والفرعون»